بين إرث ترامب الواقعي وبراغماتية بايدن.. كيف سيتعامل البيت الأبيض الجديد مع “ملفات المنطقة”؟..

مع بدء العد التنازلي لوصول الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض وارتفاع سقف التوقعات حول شكل التغيير القادم من واشنطن، تبقى العديد من القضايا تفرض نفسها على أجندة الرئاسة الامريكية القادمة.

من وجهة نظر عملية، تبقى استراتيجية مواجهة الصين التي شكلت محور السياسة الخارجية لرئاسة ترامب، حاضرة بقوة وقد يكون من الصعب على الرئيس بايدن احداث أي تغييرات جوهرية على هذا الملف، خصوصاً أن هذه المواجهة أخذت طابع الصراع العالمي المعقد للغاية والذي تعددت فيه أشكال ومستويات المواجهة التي تجاوزت الحرب الاقتصادية الى عملية الاحتواء السياسي وطبيعة علاقة حلفاء أمريكا ومصالحهم المشتركة مع الصين.

إن استمرار إدارة بايدن في تبني ملف مواجهة الصين من المرجح أن يؤدي أيضاً إلى خطوات قاسية تجاه روسيا وإيران.

قد تكون إيران الملف الأبرز الذي يراهن الكثيرون على تحول في طبيعة التعاطي معه أمريكياً، لكن وفقاً لطبيعة المعطيات الجديدة، لا ينبغي النظر إلى مستقبل العلاقة مع إيران من زاوية الماضي ، لأن الأمور على الأرض قد تغيرت تمامًا عن السنوات الماضية. حيث تسبب نظام العقوبات المفروض على إيران في احداث أزمة اقتصادية مجتمعية خلقت حالة من عدم الاستقرار الداخلي.

طبّقت الولايات المتحدة استراتيجية طويلة الامد لاحتواء للنفوذ الإيراني في المنطقة، بُنيت في جوهرها على فكرة تعظيم حجم المشاكل في الداخل الإيراني. نتيجة لذلك، من لبنان إلى سوريا والعراق وحتى أذربيجان لا يبدو أن الامور تسير في الصالح الإيراني.

 بالإضافة إلى ذلك، خلقت الخطوات الأخيرة التي اتخذها المحافظون في إيران لخرق الاتفاق النووي وبدء التخصيب صراعًا سياسيًا داخليًا ودهشة من قبل داعمي الاتفاق من الأوروبيين، الامر الذي قد يجعل استعادة الصفقة السابقة بموجب نفس الشروط صعبة للغاية.

من منظور الأمن القومي الامريكي، لا بد أن تسعى إدارة بايدن الى استغلال الوضع الحالي في إيران والاستفادة من الأوضاع الصعبة المتشكلة لمواصلة احتواء النفوذ الإيراني في لبنان وسوريا والعراق وترويض سياسات إيران العدائية ليس فقط بطموحاتها النووية ولكن أيضًا مسألة الصواريخ الباليستية ودعما لميليشيات المتعددة في المنطقة.

عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، لا يمكن اسقاط مسألة التعامل مع تركيا وسياسات الرئيس أردوغان العدائية التي تستهدف الولايات المتحدة وحلفاءها ، لا سيما في شرق البحر المتوسط و خطورة السياسات التركية على الأمن الداخلي للاتحاد الأوروبي. في الوقت نفسه سيضغط حلف شمال الأطلسي (الناتو) على الرئيس بايدن وإدارته للتصدي لمسألة صواريخ S400 الروسية التي نشرتها تركيا ، وهو أمر غير مقبول أطلسياً على كافة الصعد الايدلوجية والأمنية.

أما فيما يتعلق بعملية السلام في الشرق الأوسط، فوجهة النظر الواقعية قد تفرض نفسها على الادارة الامريكية الجديدة التي قد ترى أنه من المغري للغاية الاستفادة من سياسة كسر التابوهات التي نجح ترامب من خلالها في دفع عجلة السلام العربي الإسرائيلي. خصوصاً أن الخطوة الرمزية الأخيرة بإعلان السلطة الفلسطينية عودة التنسيق مع إسرائيل تعطي الانطباع بعدم وجود أي تجاوز لمسألة السلام الأساسي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مما قد يدفع الإدارة الامريكية الجديدة للعمل على انتهاز اللحظة مواصلة الاستفادة من مسألة توسيع دائرة السلام العربي الإسرائيلي.

لكن في الوقت الذي يمكن لدول الخليج والمغرب والسودان أن تختار الدخول في معاهدة سلام مع إسرائيل، فإن المملكة العربية السعودية بالذات ملزمة بالتوصل إلى اتفاق منفرد بصفتها الراعٍي الاساسي لمبادرة السلام العربية في ٢٠٠٢، ويتوجب عليها الحفاظ على هيكل المبادرة بأقل تقدير حتى لو خضعت لعملية تعديل جديدة تتوافق مع شكل التغيرات علي الأرض.

في الوقت نفسه تدرك السعودية ضرورة استخدام كافة الأوراق الاستراتيجية للحفاظ على مصالحها وتعظيم مكاسبها الاستراتيجية قبل اتخاذ أي خطوة نحو التطبيع المعلن للعلاقات مع إسرائيل. على الرغم من أن تطبيع العلاقات السعودية مع إسرائيل قد يكون صعباً إذا لم يرتبط بشكل من أشكال الحلول للقضية الفلسطينية ، الا أن السعوديين يبحثون عن مزايا سياسية واستراتيجية  تجنبهم على الاقل أي ضغوط قد تمارسها عليهم الإدارة الامريكية الجديدة. وهو ما قد يفسر هذا سبب إبداء السعوديين درجة كبيرة من المرونة في حل بعض المشاكل ، مثل أزمة الخليج مع قطر ، وإبداء استعدادهم للحديث مع الإيرانيين.

من وجهة نظر واقعية، سيتعين على إدارة بايدن الجديدة التعامل مع ارث إدارة ترامب، وفي حين أن هناك توقعات بتغييرات في النهج الدبلوماسي وبعض المواقف السياسية، الا أن المرجح أن تفرض الحقائق على الأرض أولويات لا يمكن التعاطي معها إلا وفقاً لمنهجية الواقعية السياسية، الأمر الذي يعني انحسار كبير في مساحات التغيير وتعاظم البراغماتية السياسية، أي الرغبة في تحقيق المكاسب من الوضع الحالي.